يا بنات قداتعبتم الشعراء بحسنكم

قبل بضعة سنوات كنت أقرأ في ديوان الشاعر الكبير محمود سامي البارودي، فلفتت نظري قصيدة جميلة له مطلعها:
بأي غزال بالخدور تهيم * * * وغزلان نجد مالهن حميم

يقول فيها:

بِأَيِّ غَزَالٍ فِي الْخُدُورِ تَهِيمُ * * * وَغِزْلانُ نَجْدٍ مَا لَهُنَّ حَمِيمُ

يَقُدْنَ زِمَامَ النفسِ وَهْيَ أَبِية * * * ويخدعْنَ لُب المَرء وَهو حَكيم

فَإِياكَ أَنْ تَغْشَى الديارَ مخَاطِرا * * * فَدُونَ حِمَاهَا لِلأسودِ نَئِيمُ

يَصُونُونَ فِي حُجبِ الأَكِلةِ ظَبْيَة * * * لَها نسب بَين الْحِسَانِ صَمِيمُ

مِنَ الْهِيفِ أَما نَعْت مَا فِي إِزَارِهَا * * * فَرَابٍ وَأَما خَصرها فَهضيم

أَنَاة بَرَاهَا اللَه فِي الحسن آيَة * * * يَدِينُ إِلَيْهَا جَاهِل وحلِيم

يَمِيلُ بِهَا سُكْرُ الشَّبَابِ إِذَا مَشَتْ * * * كَمَا مَالَ بِالْغُصْنِ الرَّوِيِّ نَسِيمُ

لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي أَدُمْيَةُ بِيعَةٍ * * * تَرَدَّدَ فِيهَا الْحُسْنُ أَمْ هِيَ رِيمُ

فتعجبت من رقة غزله في نجد، لكن عجبي لم يطل، إذ عرفت أن كثيرا من الشعراء تغزلوا في نجد وبنات نجد وهم لم يروهن، وانقدح في ذهني التساؤل المعتاد لماذا؟

لست في معرض الإجابة ولكني، أسرد هنا بعضا مما قيل في (ذوات الحسن من نجد) اللاتي شُنَّ عليهن حربا في منتدياتنا هذه الأيام، حسدا لهن ممن في قلبه مرض أبقاهن الله لنا ذخرا ولأبنائنا حصنا ومدرسة.

لقد ألهبت نجد وابنَتَها النجديةُ خيالَ أرقِ شعراءِ الغزل، وأوصف شعراءِ الطبيعة، حقيقة أو مجازا، فكانت ليلى عشيقة قيس بن الملوح نجدية، والقارئ لديوانه يجد إكثَارَهُ مِن نجدٍ وساكنيه، يكفي أن نَضعَ إحدى قصائِده التي تسيل رقةً وتنفطرُ شوقاً:

ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجد *** فقد زاد ني مسراك وجدا على وجد

أأن هتفت ورقاء في رونقِ الضُحى*** على فننٍ غضِ النباتِ من الرند

بكيتُ كما يبكي الحزينُ صبابةً *** وذُبتُ من الشوقِ المبرح والصد

بكيتُ كما يبكي الوليد ولم تكن*** جزوعاً وأبديتُ الذي لم تكن تُبدي

وقد زعموا أنَّ المُحبَّ إذا دنا *** يملُ وأن النأيَ يشفي من الوجد

بكلٍ تداوينا فلم يُشف مابنا *** على أن قُربَ الدارِ خيرٌ من البعد

وَقَبلَهُ امرؤ القيس، الشاعر المُقدم صاحبُ المعلقةِ المشهورة التي يقول فيها عن معشوقته :

أغرك مني أن حُبك قاتلي * * * وأنكِ مهما تأمري القلب يفعل

وماذرفت عيناكِ إلا لِتًضربي * * * بسهميكِ في أعشارِ قلبٍ ُمقتل

ولم تكن فوز معشوقة أغزلِ الناس- بشهادة البحتري- إلا نجديةَ المنبتِ والمسكن، كتب فيها العباسُ بن الأحنفِ شعرا يذيب النفس صبابة، ويسكب الحروفَ زُلالا، يقولُ في بعض أبياته:

تَنامينَ لا تَدرينَ ما لَيلُ ذي هَوىً * * * وَما يَفعَلُ التَسهيدُ بِالهائِمِ الصَبِّ

سَلي عَن مَبيتي مَن رَأى ذَلِكَ البَلا * * * فَباتَ مَبيتي في عَذابٍ وَفي كَربِ

أَما وَالَّذي لَو شاءَ لَم يَخلُقِ النَوى * * * لَئِن غِبتَ عَن عَيني لَما غِبتَ عَن قَلبي

يُوَهِّمُنيكَ الشَوقُ حَتّى كَأَنَّما * * * أُناجيكَ عَن قُربٍ وَإِن لَم تَكُن قُربي

ويقول: وَما نَزَحَت لِلعَينِ بَعدَكِ عَبرَةٌ * * * إِذا اِنحَدَرَت قادَت لَها أَخَواتِ

وَأَستَرزِقُ الرَحمَن لِلعَينِ نَظرَةً * * * إِلَيكِ تُداويها مِنَ العَبَراتِ

ويقول أيضا:

أَمُدُّ عَيني إِلى الدُنيا وَزَهرَتِها * * * فَما تَرى العَينُ شَيئاً غَيرَها حَسَنا

سِري وَسِركِ لَم يَعلَم بِهِ أَحَدٌ * * * إِلا الإِلهُ وَإِلا أَنتِ ثم أَنا

وَاللَهِ لَو كانَتِ الدُنيا بِأَجمَعِها * * * في راحَتي لَم أَجِد عِندي لَها ثَمَنا

وَلَستُ كَاِبنِ عَزيزٍ في مودتِهِ * * * مَن باعَ بِالملك مَن يَهوى فَقَد غُبِنا

وشاعر الغزل الشهير الشريف الرضي، يقول:

خُذي نَفسِيَ يا ريحُ مِن جانِبِ الحِمى * * * فَلاقي بِها لَيلاً نَسيمَ رُبى نَجدِ

فَإِنَّ بِذاكَ الحَيَّ إِلفاً عَهِدتُهُ * * * وَبِالرَغمِ مِنّي أَن يَطولَ بِهِ عَهدي

إلى أن يقول :

وَما شَرِبَ العُشاق إِلا بقيتي * * * وَلا وردوا في الحُب إِلا على وِردي

وهو القائل:

عندي رسائل حب لست أذكرها * * * لولا الرقيبُ لقد بلغتها فاك

كما أن صاحبةَ ذي الرمةِ ميٌ كانت نجدية أيضا، وهو الذي يقول فيها:

إِذا قُلتُ يَسلو ذِكرُ مَيَّةَ قَلبَهُ * * * أَبى حُبُّها إلا بَقاءَ عَلى الهَجرِ

تَميمية نَجدِية دارُ أَهلِها * * * إِذا مُوِّهَ الصَمّانُ مِن سَبَلِ القَطرِ

ويقول:

إِذا خطرت مِن ذِكرِ مية خَطرَة * * * عَلى النَفسِ كادَت في فؤادِك تَجرَح

تَصَرَّفَ أَهواءُ القُلوبِ وَلا أَرى * * * نَصيبَكِ مِن قَلبي لِغَيرِكِ يُمنَحُ

وَبعضُ الهَوى بِالهَجرِ يُمحى فَيمتَحي * * * وحبكِ عِندي يَستَجِد ويربح

وأما أهل الطبيعة والجمال، والحضارة العامرة، أهل الأندلس، فقد تغنوا ببنات نجد،على اختلاف طبقاتهم، فهذا الشاعر ابن الآبار القضاعي يقول في بيت له :

نَجدية أتهمت تَقضي مناسكها * * * فَلم تدَع يوم طافَت للحجيجِ حِجَى

والمتنبي الصغير ابن هانئ الأندلسي يقول:

ولقد يُجِيش الشوق راكد عبرتي * * * فكأنه لَهب وجفني مِرجل

نَجدية وَافَاك من لحظاتها * * * نظر بسفحِ دم القلوبِ موكل

وابن خاتمة المري الأندلسي:

ما بين نجد وتَلعة العلمِ * * * غُزَيِل سَيْف طرفه بِدمي

كَلِيل لَحظ الجفونِ فاتكه * * * في القَلبِ فَتك المهند الخذِم

أما ابن زمرك فيقول:

وفي السرب من نجد تعلقت ظبيةً * * * تصول على ألبابنا وتُغير

وتمنع ميسور الكلام أخا الهدى * * * وتبخل حتى بالخيال يزور

أسكان نجد جادها واكِفُ الحيا * * * هواكم بقلبي مُنجدٌ ومغيرُ

وهذا أحد جيران نجد من ساكني عمان يقول:

قالوا الطبيب علاجه، غلطوا وهل * * *غير الحبيب دواؤه ببقائه؟

ومع النسيم رسالة نجدية * * * تلقي الشِّفا والبَرْد في أحشائه

وهذا أيضا أحد شعراء الشام يقول:

لله يا نجد الظباء التي قيَّدها فيك لنا الود

إلى أن يقول:

من كل ظبيٍ قضفٌ قده لا البان يحكيه ولا الرندُ

جذلان راوي الرِّدف ظامي الحشا يضيع ما بينهما الند

يزهي على ريم الفلا جيده ويزدهي بدر السَّما الخد

واهاً له من زمنٍ سالفٍ وألف آهٍ لك يا نجد

وابن الخيمي، شاعر غزل رقيق، من روائعه قصيدة:

هل إلى برد الثنايا من سبيل لمشوق ذاب من حرّ الغليل

يقول:

بالشعب من شرقي نجد غزال * * * حلو الجنايات مليح السلال

لا الأهل أهل حين يبدو لنا * * * حسن محياه ولا المال مال

وما ذكرته إلا غيض من فيض، حتى إن بعض الأدباء نسبوا الغزل العفيف إلى نجد فقالوا غزلٌ نجدي يقصدون عُذري، وقصدي في هذه العجالة أن أرد بعضا من حقوق بناتنا، وإن كان في كل واد بنو سعد

هذا الادب التاريخي يتكلم فما عسى الحساد ان يقولوا في اكمل النساء جمالا وادبا وتربيه